فصل: فصل فيما ذكره ابن القيم من أسباب يُعتصم بها من الشيطان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في وجوب التباعد عن أهل السوء:

قَالَ ابن الجوزي: تباعد عَنْ أَهْل السُّوء وباعد أولادك عنهم لا يعادونك بأفعالهم وأقوالهم وطباعهم ولا يزال يقسو قلبك حَتَّى يستأنس بِهُمْ فهناك الهلاك، والسُّوء يتفاوت فمن أهله أَهْل الفواحش وَمِنْهُمْ أَهْل اللهو وَمِنْهُمْ أَهْل الغيبة والنميمة وَمِنْهُمْ أَهْل الملاهي وآلات الطرب.
فَإِنَّهُمْ يسبون أَهْل العقول عقولهم حَتَّى ينحلوا عَنْ دينهم ومروءتهم فيعسر عَلَيْهمْ الخلاص لما يجدونه من لذة النعمَاتَ والأصوات، حَتَّى يكون عادة وطبع فربما يجلس الرجل إليهم وَهُوَ كاره لسماع لغواهم مستوحش من نَفْسهُ ثُمَّ لا يزال على ذَلِكَ حَتَّى يراه حسنا.
من كيد الشيطان أن يورد ابن آدم المورد التي يخيل إليه أن فيها منفعته ثُمَّ يصدره المصادر التي فيها عطبه ويتخلى عَنْهُ ويسلمه للهلاك ويقف يتشمت به ويضحك منه، فيأمره بالسرقة والقتل واللواط والزنا ويدل عَلَيْهِ ويفضحه، قَالَ الله تَعَالَى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ}.
وقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
ثُمَّ اعْلَمْ أن إبلَيْسَ لعنه الله طلاع رصاد وما هُوَ بشَيْء من فخوخه بأوثق لصيده من النساء خُصُوصًا المسناة العجائز الماهرات بالحيل والمكر والخديعة، قَالَ بَعْضُهُمْ:
عَجُوزُ النَّحْسِ إِبلَيْسٌ يَرَاهَا ** تُعَلِّمُهُ الْخَدِيعَةَ فِي السُّكُوتِ

تَقُودُ مِن السِّيَاسَةِ أَلْفَ بَغْلٍ ** إِذَا انْفَرَدَتْ بِخَيْطِ الْعَنْكَبُوت

وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على نبينا مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.

.فصل فيما ذكره ابن القيم من أسباب يُعتصم بها من الشيطان:

ذكر ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ الأسباب التي يعتصم بها من الشيطان:
الأول: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، قَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} والمراد بالسمع هنا سمع الإجابة لا السمع العام.
الثاني: قراءة المعوذتين فَإِنَّ لهما تأثيرًا عجيبًا فِي الاستعاذة بِاللهِ من شر الشيطان ودفعه، ولهَذَا قَالَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: «ما تعوذ المتعوذون بمثلهما». وكَانَ صلى الله عليه وسلم يتعوذ بهما كُلّ ليلة عَنْدَ النوم، وأمر عقبة بن عامر أن يتعوذ بهما دبر كُلّ صلاة وذكر صلى الله عليه وسلم أن من قرأهما مَعَ صورة الإِخْلاص ثلاثًا حين يمسي وثلاثًا حين يصبح كفتاه من كُلّ شر.
الثالث: قراءة آية الكرسي.
الرابع: قراءة سورة البقرة ففي الصحيح عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «إن البيت الَّذِي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان».
الخامس: خاتمة سورة البقرة فقَدْ ثَبَتَ فِي الصحيح عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «من قرأ الآيتين من آخر البقرة فِي ليلةٍ كفتاه».
السادس:أول سورة حم المُؤْمِن إِلَى قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} ففي الترمذي عَنْ أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «من قرأ {حم} المُؤْمِن إِلَى قوله: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}، وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حَتَّى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حَتَّى يصبح».
السابع: لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ له الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شَيْء قدير فِي يوم مائة مرة.
ففي الصحيحين أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «من قَالَ لا إله إلا الله وحده لا شريك لَهُ، لَهُ الملك وله الحمد وَهُوَ على كُلّ شَيْء قدير فِي يوم مائة مرة، كَانَتْ عدل عشر رقاب وكتب لَهُ مائة حسُنَّة ومحيت عَنْهُ مائة سَيِّئَة وكَانَ حرزًا لَهُ من الشيطان يومه ذَلِكَ حَتَّى يمسي ولم يأت أحدٌ بأفضل منه إلا رجل عمل أكثر من ذَلِكَ».
الثامن: وَهُوَ أنفع الحروز من الشيطان كثرة ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ وَهَذَا بعينه هُوَ الَّذِي دلت عَلَيْهِ سورة النَّاس، فانه وصف الشيطان فيها الشيطان بأنه الخناس الَّذِي إِذَا ذكر الْعَبْد ربه انخنس فإذا غفل عَنْ ذكر الله التقم الْقَلْب وألقى إليه الوساوس، فما أحرز الْعَبْد نَفْسهُ من الشيطان بمثل ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ.
الحرز التاسع: الوضوء والصَّلاة وَهَذَا من أعظم ما يحترز الْعَبْد به ولاسيما عَنْدَ الْغَضَب والشهوة فَإِنَّهَا نار تصلى فِي قلب ابن آدم، كما روى الترمذي عَنْ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «ألا وإن الْغَضَب جمرة فِي قلب ابن آدم فما أطفأ الْعَبْد جمرة الْغَضَب والشهوة بمثل الوضوء والصَّلاة». فَإِنَّ الصَّلاة إِذَا وقعت بخشوعها والإقبال علي الله فيها أذهبت أثر ذَلِكَ جملة وَهَذَا أمر تجربته تغني عَنْ إقامة الدَلِيل عَلَيْهِ.
الحرز العاشر: إمساك فضول الكلام فَإِنَّهَا تفتح أبوابًا من الشَّر كُلّهَا مداخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عَنْكَ تلك الأبواب.
وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم.

.فَوَائِد ونصائح ومواعظ وحكم وآداب ووصايا:

من أَخْلاق المُؤْمِن حسن الْحَدِيث، وحسن الاستماع إِذَا حدث، وحسن البشر إِذَا لقي، ووفاء الوعد إِذَا عد ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
سوء الخلق سبب النكد فِي الحياة والشرور والآثام، فعلى العاقل اللبيب أن يعرف الأَخْلاق السيئة ليتنبها، وهي كثيرة ولا يخلوا احد مَنْهَا فتفقَدْ نفسك وأزل ما فيها.
فمن ذَلِكَ المكر، والخديعة، والخيانة، والغش، والكذب، والغيبة، والنميمة، والسعاية، والظلم، والرياء، والعقوق، والقطيعة، والكبر، والعجب، والزهو، والأنفة من المسكنة.
والنفاق، والخيانة، والغدر، والحسد، والغل، والحقَدْ، والشماتة، والبغضاء، وسوء الظن، والتجسس على الْمُسْلِمِين.
وإضمار السُّوء، والتربص بالدوائر، ومساعدة الهوى، ومخالفة الحق، والرضى بالهوى، والحب والبغض بالهوى، والجفاء.
والقَسْوَة، وقلة الرحمة، والحرص، والشره، والطمَعَ، والطيرة، والطغيان بالْمَال، والفرح بإقبال الدُّنْيَا، واستقلال الرزق، واحتقار النعم، والاحتقار بمصائب الدين، واستعظام الدُّنْيَا، والحزن على ما فات مَنْهَا.
والاستهانة بعلم الله عَزَّ وَجَلَّ عَنْدَ فعلك للذنب والاستهانة بسماعه ما يصدر منك من المعاصي قولاً وفعلاً، وقلة الحياة من إطلاع الله عَلَيْكَ ومن إطلاع من عَنْ اليمين وعن الشمال قعيد، وأَنْتَ لو اطلع عَلَيْكَ مخلوق ضعيف وأَنْتَ تعمل معصية الله لانزعجت.
فتنبه لِذَلِكَ وراقب الله جَلَّ وَعَلا وتقدس وكن منه على حذر.
وَهُوَ الْحَلِيمُ فَلا يُعَاجِلُ عَبْدَهُ ** بِعَقُوبَةٍ لِيَتُوبَ مِنْ عِصْيَانِ

لَكِنَّهُ يُلْقِي عَلَيْهِ سِتْرَهُ ** فَهُوَ السَّتِيرُ وَصَاحِبُ الْغُفْرَانِ

وَهُوَ الْعَفُّوُ فَعَفْوُهُ وَسِعَ الْوَرَى ** لَوْلاهُ غَارَ الأَرْضُ بِالسُّكانِ

وَهُوَ الصَّبُورُ عَلَى أَذَى أَعْدَائِهِ ** شَتَمُوهُ بَلْ نَسَبُوهُ لِلْبُهْتَانِ

قَالُوا لَهُ وَلَدٌ وَلَيْسَ يُعِيدُنَا ** شَتْمًا وَتَكْذِيبًا مِن الإِنْسَانِ

هَذَا وَذَاكَ بِسَمْعِهِ وَبِعِلْمِهِ ** لَوْ شَاءَ عَاجَلهُمْ بِكُلِّ هَوَانِ

لَكِنْ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ وَهُمْ ** يُؤْذُونَهُ بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرَان

فصل:
قَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: إخواني إِذَا تقرب النَّاس إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ بأنواع البر الظاهرة مثل الجهاد والحج والصوم والزَّكَاة والصدقة وتلاوة القرآن وغير ذَلِكَ، فنافسوهم فيها واجعلوا أعظم الرغبة فِي طاعة الْقُلُوب التي لا يطلع عَلَيْهَا الإنس ولا الملائكة ولا الجن، ولا يعلمها إلا علام الغيوب، فَإِنَّ القليل من أعمال البر كثير لسلامته من الرياء وَجَمِيع المكدرات.
ألا فتقربوا إِلَى الله بطاعة الْقُلُوب فَإِنَّ فيها المعرفة بعظمة الله وكبريائه وجلاله وقدرته وعَظِيم قدرته سُبْحَانَهُ وتقربوا إليه بمحابه، وبغض مكارهه، والرِّضَا والْغَضَب لَهُ وفيه، وتقربوا إليه بشدة الحب لَهُ، والحب فيه والغض من أجله، وتقربوا إِلَى الله بالمعرفة بأياديه الحسُنَّة ونعمه الظاهرة والباطنة، وأفعاله الجميلة، ومننه المتواترة على تواتر الإساءة منا، وَهُوَ جَلَّ وَعَلا وتقدس يعود بأنواع النعم عَلَيْنَا.
ألا فتقربوا إليه بالخوف من زَوَال النعم وشدة الحياء من التقصير فِي الشكر، وتقربوا بالوجل من مكر الله تَعَالَى والإشفاق على إيمانكم، وتقربوا إِلَى الله بشدة الخوف منه، وحَقِيقَة الرجَاءَ فيه، والسرور بذكره، ومناجاته، والشوق إليه، والرغبة فِي جواره، وتقربوا إِلَى الله بصدق اليقين والتوكل عَلَيْهِ والثِّقَة به وَالطُّمَأْنِينَة إليه والأُنْس به والانقطاع إليه.
وتقربوا إليه بالوفاء ولين الجانب والجناح والتواضع والخشوع والخضوع، وتقربوا إليه بالحلم والاحتمال وكظم الغيظ وتجرع المرارة، وتقربوا إليه بسلامة الصدر وإرادة الْخَيْر للأمة وكراهة الشَّر لَهُمْ، وتقربوا إِلَى الله بالرأفة والرحمة والشفقة والحوطة على الْمُسْلِمِين، وتقربوا إليه بالجود والكرم والتفضل والإحسان وصدق الوفاء.
وتقربوا إليه بالقناعة والعفاف والكفاف والرضى وبالبُلْغَةِ واليأس من نائل النَّاس، وتقربوا إليه بالتدبير لكتابه وتفهمه والْعَمَل به والإِخْلاص، وتقربوا إليه بمجاهدة إبلَيْسَ لعنة الله ومخالفة الهوى والنفس الأمارة بالسُّوء والتفقَدْ لأحوالكم والتقوى فِي كُلّ أموركم وتقربوا إِلَى الله بأداء الأمانات، وتقربوا إليه بالإحسان إِلَى المسيء والإيثار على أنفسكم وإن كَانَ بكم خصاصة، وارغبوا فِي مكارم الأَخْلاق.
وَيَا سَائِلِي عَنْ حِرْفَتِي قُلْتُ حِرْفَتِي ** صِيَانَةُ أَوْقَاتِي بِطَاعَةِ خَالِقِي

فقَالَ لَقَدْ أَحْسَنْتَ تَصْرِيفَ مُدَّةٍ ** لِعُمْرِكَ فَالْزِمْهَا تَفُزْ بِالسَّعَادَة

وتقربوا إِلَى الله بالتواضع والابتعاد عَنْ الترفع على عباد الله الْمُؤْمِنِينَ، وتقربوا إِلَى الله بالفرح بمصائب الدُّنْيَا، والرِّضَا بقضاء الله وقدره وتقربوا إِلَى الله بالاستعداد للموت والبعث والنشور والحساب.
دَعِ التَّعْلِيلَ وَالتَّسْوِيفَ وَاقْبِلْ ** عَلَى مَوْلاكَ تَغْنَمْ نَيْلَ حَظِّ

أَدِمْ بِالْحَزْمِ إِقْبَلاً عَلَيْهِِ ** عَسَى تَحْظَى بِتَوْفِيقٍ وَحِفْظِ

وَنَقِّ الْقَلْبَ مِنْ شُِبُهَاةِ زَيْغٍ ** تَرَاهُ مَعْنَوِيًّا ثُمَّ لَفْظِي

وَرِدْ حَوْضَ الشَّرِيعَةِ مَعْ صَفَاءٍ ** وَجَانِبْ كُلَّ ذِي حَسَدٍ وَغَيْظِ

وَرَقِّ النَّفْسَ بِالْعُرْفَانِ تَزْكُو ** وَتَظْفَر بِالْمُنَى مِنْ كُلِّ وَعْظ

وَاللهُ أَعْلَمُ وصلى الله على مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
فصل:
من أنفع الحياء أن تستحي من الله أن تسأله ما تحب وتأتى ما يكره. قَالَ بَعْضُهُمْ: ربما أصلي لله ركعتين فانصرف وأنَا من الخجل بمنزلة من ينصرف عَنْ السرقة حياء من الله عَزَّ وَجَلَّ لأني لم أوفها حقها.
قَالَ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الدُّنْيَا كُلّهَا غموم فما كَانَ مَنْهَا من سرور فهو ربح. وقَالَ الجنيد رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لست اسْتَبْشِعُ ما يرد علي لأني قَدْ أصلت أصلاً وَهُوَ أَنَّ الدُّنْيَا دار هم وغم وبَلاء وفتنة وإن العَالِم كله شر.
ومن حكمه أن يتلقاني بكل ما أكره فَإِنَّ تلقاني بما أحب فهو فضل وإلا فالأصل هُوَ الأول.
وقَالَ بَعْضهمْ: يَا أيها النَّاس أنتم تحبون الروح والروح لله وتحبون الْمَال والْمَال للورثة وتطلبون اثنين ولا تجدونهما الرَّاحَة والفرح وهما فِي الْجَنَّة. فالواجب على الْعَبْد أن لا يوطن نَفْسهُ على الرَّاحَة فِي الدُّنْيَا ولا يركن فيها إِلَى ما يقتضي فرحًا وأنسًا وأن يعمل على قول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم فيما روى عَنْهُ أَبُو هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ «الدُّنْيَا سجن المُؤْمِن».
فتوطين الْعَبْد نَفْسهُ على المحن يهون عَلَيْهِ ما يلقاه ويجد السلوان عَنْدَ ما يهواه.
يُمَثِّلُ ذُو اللُّبِ فِي لُبِّهِ ** شَدَائِدَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلا

فَإِنْ نَزَلَتْ بَغْتَةً لَمْ تَرُعْهُ ** لِمَا كَانَ فِي نَفْسِهُ مَثَلا

رَأى الأَمْر يُفْضِي إِلَى آخر ** فَصَيِّرَ آخِرَهُ أَوَّلا

وَذُو الْجَهْلِ يَأْمَنْ أَيَّامَهُ ** وَيَنْسَى مَصَارِعَ مَنْ قَدْ خَلا

فَإِنْ دَهَمَتْهُ صُرُوفُ الزَّمَانِ ** بِبُغْضِ مَصَائِبِهِ أَعْوَلا

وَلَوْ قَدَّمَ الْحَزْمَ فِي نَفْسِهُ ** لَعَلَّمَهُ الصَّبْرُ عِنْدَ الْبَلا

فعلى الإِنْسَان العاقل أن يتلقى ما يرد عَلَيْهِ من المصائب والهموم والغموم والانكاد بالصبر والرِّضَا والاستسلام عَنْدَ جريان الِقَضَاءِ.
فعن قريب إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى ينجلي الأَمْر ويستوجب من الله جَلَّ وَعَلا جزيل الأجر والثواب والله ولي التَّوْفِيق. وقَالَ أحد الزهاد: جوع قليل، وَعُرْيٌ قليل وذل قليل، وصبر قليل وقَدْ انقضت عَنْكَ أيام الدُّنْيَا. وقَالَ آخر:
الصبر جماع كُلّ فضيلة وملاك كُلّ فائدة جزيلة ومكرمة نبيلة.
قَالَ الله جَلَّ وَعَلا وتقدس: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ}، وقَالَ جل وعلا وتقدس: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} وقَالَ جَلَّ وَعَلا وتقدس: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
من أنزل حوائجه بِاللهِ تَعَالَى والتجأ إليه وتوكل فِي أمره كله عَلَيْهِ كفاه كُلّ مؤنة، وقرب عَلَيْهِ كُلّ بعيد، ويسر عَلَيْهِ كُلّ عسير، ومن سكن إِلَى علم نَفْسهُ وعقله، واعتمد على قوته وحوله وكله الله إِلَى نَفْسهُ وخذل وحرم التَّوْفِيق فلم تنجح مطالبه ولم تتيسر مآربه.
أَقَرَّ عَلَى حُكْمِ الرَّدَى الْمُتَخَمِّطُ ** وَقَرَّ كَأَنْ لَمْ يُصْرَعِ الْمُتَخَبِّطُ

عَلَيْكَ سَبِيلُ الْخَيْرِ وَانْظُرْ إِلَى الَّذِي ** تَأَبَّطَ شَرًّا هَلْ نَجَا الْمُتَأَبِّطُ

وَإِيَّاكَ وَالتَّفْرِيطَ فِي الْبِرِّ وَالتُّقَى ** فَكَمْ قَرَعَ السِّنَّ الذُّهُولُ الْمُفَرِّطُ

وَحَاوِلْ مِن الدُّنْيَا الدَّنِيةِ مَخْلِصًا ** وَأَنَّى وَأَنْتَ النَّاشِبُ الْمُتَوَرِّطُ

لَعَمْرُ أَبِيكَ الْخَيْر مَا عَزَّ قَاسِطٌ ** وَلَوْ مَلَكَ الدُّنْيَا وَلا ذَلَّ مُقْسِطُ

تَبَرَّأَ غَالٍ مِنْ مَسَاعِيهِ مُسْرِفٌ ** وَأَحْمَدَ عُقْبَى أَمْرِهِ الْمُتَوَسِّطُ

سَيَنْخَفِضُ الطَّمَّاحُ إِثْمًا وَعِزَّةً ** وَيَنْقَبِضُ التَّلْعَابَةُ الْمُتَبَسِّطُ

آخر:
سَهَوْنَا عَنْ مُسَاوَرَةِ الْمَنَايَا ** فَيَا للهِ مِنْ سَهْوِ الْعِبَادِ

وَغَرَّتْنَا مُسَاعَدَةُ الأَمَانِي ** فَلَمْ نَحْزَنْ عَلَى الْعُمْرِ الْمُبَادِ

وَكَمْ نَادَتْ فَأَسْمَعَتِ اللَّيَالِي ** وَلَكِنْ لا مُصِيخَ إِلَى مُنَادِ

مُجَاهَرَةٌ بِنُكْرٍ دُونَ عُرْفٍ ** وَتَنْدِيدٌ يُعَادُ بِكُلِّ نَادِ

يَطُولُ تَعَجُّبِي مِنَّا حَلَلْنَا ** وَلَمْ نَخَفِ السُّيُولَ بِبَطْنِ وَادِ

وَلَمْ أَرَ مِثْلَنَا سَفَرًا تَبَارَوْا ** إِلَى الْغَايَاتِ سَيْرًا دُونَ زَاد

اللهم وَفَّقَنَا توفيقًا يَقِينَا عَنْ معاصيك وأرشدنا إِلَى السعي فيما يرضيك وأجرنا يَا مولانَا من خزيك وعذابك وهب لَنَا ما وهبته لأوليائك وأحبابك وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين الأحياء مِنْهُمْ والميتين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
فائدة: قَالَ ابن القيم رَحِمَهُ اللهُ: لشهادة أن لا إله إلا الله عَنْدَ الموت تأثير عَظِيم فِي تكفير السيئات وإحباطها لأنها شهادة من عبد موقن بها عارف بمضمونها قَدْ ماتت منه الشهوات ولانت نَفْسهُ المتمردة وانقادت بعد إبائها، وأقبلت بعد أعراضها، وذلت بعد عزها وخَرَجَ مَنْهَا حرصها على الدُّنْيَا وفضولها واستخذت بين يدي ربها وفاطرها ومولاها الحق أذل ما كَانَتْ لَهُ وأرجى ما كَانَتْ لعفوه ومغفرته ورحمته، وتجرد مَنْهَا التَّوْحِيد بانقطاع أسباب الشرك وتحقق بطلانه.
فزالت مَنْهَا تلك المنازعات التي كَانَتْ مشغولة بها، واجتمَعَ همها على من أيقنت بالقدوم عَلَيْهِ والمصير إليه، فوجه الْعَبْد وجهه بكليته إليه، واقبل بقَلْبهُ وروحه وهمه عَلَيْهِ، فاستسلم لله وحده ظاهرًا وباطنًا واستوى سره وعلانيته.
فقَالَ: لا إله إلا الله مخلصًا من قَلْبهُ وقَدْ تخلص من التعلق بغيره والالتفات إِلَى ما سواه، قَدْ خرجت الدُّنْيَا كُلّهَا من قَلْبهُ وشارف القدوم على ربه، وخمدت نيران شهوته، وامتلأ قَلْبهُ من الآخِرَة، فصَارَت نصب عينيه، وصَارَت الدُّنْيَا وراء ظهره.
فَكَانَتْ تلك الشهادة الْخَالِصَة خاتمة عمله فطهرته من ذنوبه وأدخلته على ربه لأنه لقِيَ ربه بشهادة صادقة خالصة وافق ظاهرها باطنها وسرها وعلانيتها فلو حصلت لَهُ الشهادة على هَذَا الوجه فِي أيام الصحة لا ستوحش من الدُّنْيَا وأهلها وفر إِلَى الله من النَّاس وأنس به دون من سواه لكنه شهد بها بقلب مشحون بالشهوات وحب الحياة وأنس بها ونفس مملوءة بطلب الحظوظ والالتفات إِلَى غير الله فلو تجردت كتجردها عِنْدَ الموت لكَانَ لها نبأ آخر وعيش آخر سِوَى عيشها البهيمي. وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
إِذَا مَا شِئْتَ أَنْ تَحْيَا ** حَيَاةً حُلْوَةَ الْمَحْيَا

فَلِلْفُرُوضِ لا تَهْمَلْ ** وَذِكْرُ اللهِ لا تَنْسَى

آخر:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْمَرْأَ يَحْبِسُ مَالَهُ ** وَوَارِثَهُ فِيهِ غَدًا يَتَمَتَّعُ

كَأَنَّ الْحُمَاةَ الْمُشْفِقِينَ عَلَيْكَ قَدْ ** غَدَوْا بِكَ أَوْ رَاحُوا رَوَاحًا فَأَسْرَعُوا

وَمَا هُوَ إِلا النَّعْشُ لَوْ قَدْ أَتَوَ بِهِ ** تُقَلَّ فَتُلَقَى فَوْقَهُ ثُمَّ تُرْفَعُ

وَمَا هُوَ إِلا حَادِثٌ بَعْدَ حَادِثٍ ** عَلَيْكَ فَمِنْ أَيِّ الْحَوَادِثِ تَجْزَعُ

وَمَا هُوَ إِلا الْمَوْتُ يَأَتِي لِوَقْتِهِ ** فَمَالكَ فِي تَأْخِيرِهِ عَنْكَ مَدْفَعُ

أَلا وَإِذَا وُدِّعْتَ تَوْدِيعَ هَالِكٍ ** فَآخِرُ يَوْمٍ مِنْكَ يَوْمَ تُوَدَّعُ

أَلا وَكَمَا شَيَّعْتَ يَوْمًا جَنَائِزًا ** فأَنْتَ كَمَا شَيَّعْتَهُمْ سَتُشَيَّعُ

رَأَيْتُكَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثِقَةٍ بِهَا ** وَإِنَّكَ فِي الدُّنْيَا لأَنْتَ الْمُرَوَّعُ

وَصَفْتَ التُّقَى وَصْفًا كَأَنَّكَ ذُو تُقَى ** وَرِيحُ الْخَطَايَا مِنْ ثِيَابِكَ تَسْطَعُ

وَلَمْ تُعْنَ بِالأَمْرِ الَّذِي هُوَ وَاقِعُ ** وَكُلُّ امْرِئٍ يَعْنَى بِمَا يَتَوَقَّعُ

وَإِنَّكَ لِلْمَنْقُوصِ فِي كُلِّ حَالَةٍ ** وَكُلُّ بَنِي الدُّنْيَا عَلَى النَّقْصِ يُطْبَعُ

وَمَا زِلْتُ أَرْمي كُلَّ يَوْمٍ بِعِبْرَةٍ ** تَكَادُ لَهَا صُمُّ الْجِبَالِ تَصْدَعُ

فَمَا بَالُ عَيْنِي لا تَجُودُ بِمَائِهَا ** وَمَا بَالُ قَلْبِي لا يَرِقُّ وَيَخْشَعُ

تَبَارَكَ مَنْ لا يَمْلِكُ الْمُلْكَ غَيْرُهُ ** مَتَى تَنْقَضِي حَاجَاتُ مَنْ لَيْسَ يَقْنَعُ

وَأَيُّ امْرئٍ فِي غَايَةٍ لَيْسَ نَفْسُهُ ** إِلَى غَايَةٍ أُخْرَى سِوَاهَا تَطَلَّعُ

وَبَعْضُ بَنِي الدُّنْيَا لِبَعْضٍ ذَرِيعَةٌ ** وَكُلٌّ بِكُلَّ قَلَّمَا يَتَمَتَّعُ

يُجِبُّ السَّعِيدُ الْعَدْلَ عِنْدَ احْتِجَاجِهِ ** وَيَبْغِي الشَّقِيُّ الْبَغْيَ وَالْبَغْيُ يَصْرَعُ

اللَّهُمَّ ثبتنا على نهج الاستقامة وأعذنا من موجبات الحَسْرَة والندامة يوم القيامة وخفف عنا ثقل الأوزار، وارزقها عيشة الأَبْرَار وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِين بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ وَصَلّى اللهُ عَلَى مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين.